التحديات التقنية والمالية التي تواجه الدول الإسلامية في إنشاء منصات تواصل اجتماعي
تواجه الدول الإسلامية تحديات كبيرة في سبيل إنشاء منصات تواصل اجتماعي خاصة بها. تتنوع هذه التحديات بين التقنية والمالية، وتؤثر بشكل كبير على قدرة هذه الدول على تحقيق استقلالية في مجال الإعلام الرقمي. في هذا المقال، سنناقش هذه التحديات بالتفصيل، ونستعرض الأسباب التي تجعل من الصعب على الدول الإسلامية إنشاء منصات تواصل اجتماعي مملوكة لها.
حقيقة مؤلمة كشفها مجرد سؤال
كان أحد الأسئلة الأولى التي طرحتُها على زملائي – عندما توليتُ منصب المدير العام لوكالة الأناضول في عام 2011 – هو: "عندما يتحدث رئيس جمهوريتنا، من يقوم بترجمة خطابه إلى اللغة العربية وتوزيعه على وسائل الإعلام العربية؟" أو على سبيل المثال، إذا قال أمير قطر أو رئيس مصر شيئًا عن تركيا، من يترجم ذلك إلى التركية، ويقدمه لوسائل الإعلام التركية؟ كانت الإجابة: "وكالتنا لا تقوم بذلك". فسألتُ: "هل يتم ترجمته إلى الإنجليزية، الفرنسية، أو الروسية وتوزيعه على الدول التي تتحدث بهذه اللغات؟"، وكانت الإجابة أيضًا: "لا".
تواصلنا بعد ذلك مع رئاسة الوزراء، ورئاسة الجمهورية، والمؤسسات الأخرى، ووجدنا أنهم لا يقدمون هذه الخدمة. في ذلك اليوم أدركنا أن التواصل بين تركيا والدول الإسلامية، كان يتم عبر وكالات الأنباء الغربية.
فعلى سبيل المثال، تقوم وكالات أنباء، مثل: وكالة الأنباء الأميركية، والفرنسية، وأسوشيتد برس المملوكة للدول الغربية بتغطية الأحداث في الشرق الأوسط، وترجمتها من العربية إلى التركية وبيعها لنا، وعندما يحدث شيء في تركيا، تترجمه هذه الوكالات إلى العربية وتبيعه لدول الشرق الأوسط.
هذه العملية ليست مجرد خسارة اقتصادية، بل إن أسلوب تقديم الأخبار، وتوقيت نشرها، وطريقة ترجمتها كانت حرجة لدرجة أنها قد تؤدي إلى أزمات دبلوماسية، ويمكن أن تُستغل من قبل دولة ثالثة.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن الدول التي تتحدث العربية أو التركية، لم تكن لديها شبكة أخبار مشتركة. إذ كانت الأحداث التي تحدث في تلك البلدان تُغطَى من قبل وكالات الأنباء الأجنبية. في عام 2011؛ أظهر لنا هذا السؤال البسيط حقيقة مؤلمة: لم يكن هناك وكالة أنباء دولية فعّالة في الدول الإسلامية، وكانت كل دولة تعتمد على هذه الوكالات لإيصال صوتها. واستمر احتكار وكالات الأنباء لمدة 120 عامًا بهذا الشكل.
قررت وكالة الأناضول في ذلك الوقت الانطلاق عالميًا، وفي غضون ثلاث سنوات بدأنا نشر الأخبار باللغات: العربية، والروسية، والفرنسية، والبوسنية، والإنجليزية، والكردية. وبدأنا نشر الأخبار باللغة العربية في عام 2012، بينما أنشأت وكالة الأنباء الفرنسية "AFP " خدمتها باللغة العربية في عام 1969، ووكالة رويترز البريطانية أنشأت خدمتها في عام 1968. عندها أدركنا مدى تأخرنا ومدى افتقارنا إلى الموارد الضرورية بشكل مأساوي.
اليوم، تستطيع وكالة الأناضول ترجمة خطابات رئيس الجمهورية إلى 10 لغات وتوزيعها على دول أخرى. لكننا نواجه الآن مشكلة أخرى، وهي احتكار وسائل التواصل الاجتماعي.
الاحتكار الكبير الثاني
عندما كانت تحدث واقعة في أفريقيا ولم تغطِها وكالات الأنباء، كانت تبقى غير معروفة لفترة طويلة. ولكن هذا الاحتكار انهار مع صعود الصحف، وانتشار التلفزيون، وأخيرًا اكتشاف الإنترنت. لم تعد وكالات الأنباء تحتكر الأخبار بنفس الطريقة القديمة، فقد أزالت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الاحتكار، لكنها أوجدت نوعًا جديدًا من الاحتكار.
اليوم، 98 بالمئة من 4.5 مليارات مستخدم للإنترنت في العالم يستخدمون محرك البحث "غوغل". ولا يمكنك نشر مقطع فيديو على نطاق واسع دون استخدام "يوتيوب". ويقوم 3 مليارات شخص بنشر محتوياتهم يوميًا على "فيسبوك"، ولا توجد منصة أكبر من ذلك. وتتحكم 7 شركات أميركية من بين أكبر 10 شركات في عالم الإنترنت.
لا أعتقد أنه من الضروري التحدث مجددًا عن كيفية جمع وبيع بياناتنا من قِبل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدامها في الأنشطة غير القانونية أو تقديمها لأجهزة الاستخبارات. لقد انكشفت خلال حرب غزة كيفية تقديم "فيسبوك وواتساب وغوغل وإنستغرام" بياناتها لإسرائيل، واستخدامها لقتل الفلسطينيين عبر الذكاء الاصطناعي الذي يسمى "لافندر". وقد كتبتُ عن هذا الموضوع سابقًا هنا في "آراء".
التحديات التقنية في إنشاء منصات تواصل اجتماعي إسلامية
تتطلب منصات التواصل الاجتماعي بنية تحتية تقنية متقدمة تشمل خوادم قوية، شبكات توزيع المحتوى، وأدوات إدارة البيانات. الدول الإسلامية تعاني من نقص في هذه الموارد التقنية، مما يجعل من الصعب تطوير منصات قادرة على المنافسة مع المنصات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج هذه المنصات إلى فريق من المهندسين والمطورين ذوي الخبرة العالية، وهو ما قد يكون غير متوفر بشكل كافٍ في العديد من الدول الإسلامية.
التحديات المالية والاقتصادية
تطوير وإدارة منصات التواصل الاجتماعي يتطلب استثمارات مالية ضخمة. الدول الإسلامية غالبًا ما تواجه تحديات اقتصادية تجعل من الصعب تخصيص الموارد اللازمة لمثل هذه المشاريع. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على نماذج أعمال تعتمد على الإعلانات وجمع البيانات، وهو ما قد يكون صعبًا تحقيقه في الأسواق الإسلامية التي قد لا تكون كبيرة بما يكفي لتحقيق أرباح مستدامة.
التحديات الثقافية والاجتماعية
تلعب الثقافة والمجتمع دورًا كبيرًا في نجاح منصات التواصل الاجتماعي. الدول الإسلامية تتميز بتنوع ثقافي واسع، مما يجعل من الصعب إنشاء منصة واحدة تلبي احتياجات جميع المستخدمين. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه هذه المنصات تحديات في التعامل مع المحتوى الذي يتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية، مما يتطلب وجود آليات رقابة فعالة.
الحلول الممكنة لتجاوز التحديات
على الرغم من التحديات الكبيرة، هناك بعض الحلول التي يمكن أن تساعد الدول الإسلامية في إنشاء منصات تواصل اجتماعي خاصة بها. من بين هذه الحلول:
التعاون بين الدول الإسلامية لتوحيد الجهود والموارد التقنية والمالية.
الاستثمار في التعليم والتدريب لتطوير المهارات التقنية اللازمة.
تطوير نماذج أعمال مبتكرة تتناسب مع الأسواق الإسلامية.
إنشاء شراكات مع الشركات التقنية العالمية للاستفادة من خبراتها.
الاستفادة من التجارب السابقة
يمكن للدول الإسلامية الاستفادة من التجارب السابقة للدول الأخرى التي تمكنت من إنشاء منصات تواصل اجتماعي ناجحة. على سبيل المثال، يمكن دراسة كيفية نجاح منصات مثل "ويبو" في الصين، وكيف تمكنت من التنافس مع المنصات العالمية مثل "فيسبوك" و"تويتر". يمكن أن توفر هذه التجارب دروسًا قيمة حول كيفية تجاوز التحديات التقنية والمالية والثقافية.
أهمية التعاون الإقليمي والدولي
التعاون الإقليمي والدولي يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في تحقيق النجاح في إنشاء منصات تواصل اجتماعي إسلامية. يمكن للدول الإسلامية تشكيل اتحادات أو تحالفات تقنية تعمل على تبادل الخبرات والموارد، مما يسهم في تعزيز القدرة التنافسية لهذه المنصات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد هذا التعاون في جذب الاستثمارات الدولية وتوفير الدعم المالي والتقني اللازم.
دور الحكومات والمؤسسات التعليمية
تلعب الحكومات والمؤسسات التعليمية دورًا محوريًا في دعم جهود إنشاء منصات تواصل اجتماعي إسلامية. يمكن للحكومات تقديم الدعم المالي والتشريعي لهذه المشاريع، بالإضافة إلى توفير البنية التحتية اللازمة. من ناحية أخرى، يمكن للمؤسسات التعليمية تطوير برامج تعليمية وتدريبية تركز على تقنيات الإعلام الرقمي وتطوير البرمجيات، مما يسهم في تكوين جيل من المهندسين والمطورين القادرين على تنفيذ هذه المشاريع.
الاستثمار في البنية التحتية التقنية
لا يمكن تحقيق النجاح في إنشاء منصات تواصل اجتماعي إسلامية دون الاستثمار في البنية التحتية التقنية. يتطلب ذلك بناء مراكز بيانات متطورة، وتوفير شبكات توزيع المحتوى، وتطوير أدوات إدارة البيانات والتحليل. يمكن أن تسهم هذه الاستثمارات في تحسين الأداء الفني للمنصات وزيادة قدرتها على التعامل مع عدد كبير من المستخدمين والمحتوى.
تشجيع الابتكار والتطوير المستمر
الابتكار والتطوير المستمر هما مفتاح النجاح في مجال منصات التواصل الاجتماعي. يجب على الدول الإسلامية تشجيع الابتكار من خلال تقديم الدعم المالي والتقني للمشاريع الناشئة، وتوفير بيئة تشجع على البحث والتطوير. يمكن أن يسهم ذلك في تحسين جودة الخدمات المقدمة وتقديم ميزات جديدة تلبي احتياجات المستخدمين.
التوعية والتسويق
تحتاج منصات التواصل الاجتماعي الإسلامية إلى جهود كبيرة في مجال التوعية والتسويق لجذب المستخدمين وتوسيع قاعدة العملاء. يمكن استخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية لتسليط الضوء على ميزات هذه المنصات وأهميتها في تعزيز التواصل بين الدول الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تنظيم حملات توعية تستهدف الفئات المختلفة من المجتمع، بما في ذلك الشباب والنساء، لتعزيز استخدام هذه المنصات.
إن إنشاء منصات تواصل اجتماعي مملوكة للدول الإسلامية ليس بالأمر السهل، ولكنه ليس مستحيلاً. التحديات التقنية والمالية والثقافية والاجتماعية كبيرة، ولكن من خلال التعاون والاستثمار في التعليم والتدريب، يمكن تحقيق هذا الهدف. إن وجود منصات تواصل اجتماعي إسلامية يمكن أن يسهم في تعزيز التواصل بين الدول الإسلامية وتحقيق استقلالية إعلامية تساعد في نقل الصورة الحقيقية للعالم الإسلامي.
إرسال تعليق