تداعيات النهب على متحف بيت الخليفة في أم درمان
بعد قرن ونيف يقف اليوم متحف بيت الخليفة وسط مدينة أم درمان شمالي غرب العاصمة الخرطوم شاهدا على حرب 15 أبريل/نيسان 2023 في مشهد قلما يتكرر مازجا بين الحاضر والتاريخ. فجدرانه المبنية من الطين في العام 1887 اخترقتها رصاص وقذائف معارك حرب أبريل، أما مقتنياته التي تغطي حقب عصور ما قبل التاريخ إلى الدولة المهدية (1881-1898) فقد نُهبت أكثر من 20 قطعة وتبعثرت مخطوطاته ومقتنياته الثمينة لتباع على حدود دولة السودان.
تسجيل البلاغات واسترداد الآثار المنهوبة
كشف رئيس اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات السودان المدعي العام الفاتح طيفور عن تدوين الهيئة القومية للآثار والمتاحف بلاغا يشمل كل الآثار والقطع المنهوبة من السودان. وأكد المدعي العام في تصريح للجزيرة نت أن نهب آثار السودان من جرائم الدعم السريع، وسيتم التعاون مع دول العالم والمؤسسات المهتمة مثل اليونسكو والإنتربول والأمم المتحدة لاسترداد هذه المنهوبات، وهو أمر يحتاج لجهد كبير. وأكد أن اللجنة الوطنية ستولي اهتمامها بهذا الملف لجهة أن تاريخ وآثار السودان إن فقدت فمن الصعب استردادها.
تاريخ بيت الخليفة وتحوله إلى متحف
أنشأ الخليفة عبد الله التعايشي البيت ليكون مبنى سكنيا وإداريا خططه المهندس الإيطالي بيترو، وبناه أحد الأنصار وهو حمد عبد النور، ويمتد على مساحة نحو 3500 متر، وبُني محاذاة لقبة الإمام المهدي وصُمم بناؤه بشكل حديث. تحول البيت إلى متحف في العام 1928 كان يضم أكثر من ألفي قطعة أثرية توثق للفترة المهدية والفترة التركية والحكم الثنائي الإنجليزي المصري، لكن إرثا حضاريا لا يقدر بثمن وفقا للمسؤول في هيئة الآثار والمتاحف جمال زين العابدين عرض للبيع على حدود دولة جنوب السودان.
آثار منهوبة: تفاصيل الخسائر
حصلت الجزيرة نت على صور وفيديوهات من داخل متحف بيت الخليفة بأم درمان تُظهر آثار الدمار الذي لحق ببعض أجزائه ومخازن كسرت ونُهبت محتوياتها. وكشف ممثل هيئة الآثار والمتاحف في السودان رئيس مساعد الفنيين جمال محمد زين العابدين للجزيرة نت عن نهب نحو 30 قطعة أثرية من قبل الدعم السريع يعود تاريخ بعضها إلى الدولة المهدية، حيث تمت سرقة سيف وراتب قائد الثورة المهدية الإمام محمد أحمد المهدي، وكأس للشرب خاص بخليفة المهدي عبد الله التعايشي مصنوع من قرن وحيد القرن، وسبحة خاصة بالأمير عثمان دقنة، إلى جانب سيف يعود للأمير عبد الرحمن النجومي، وآخر للأمير محمد عثمان أبو قرجة، وهما من أشهر قادة وأمراء الدولة المهدية.
وأضاف "سُرق سرج خاص بالسلطان علي دينار وأزياء كانت تستخدم خلال فترة المهدية (الجبة)، ومن غرفة العملة نهبت بالكامل عملات نقدية كانت تستخدم إبان فترة الدولة المهدية، وبضياعها يفقد السودان حقبة مهمة من تاريخه"، وفقا للمسؤول في الهيئة.
الحقب التاريخية التي يوثقها متحف بيت الخليفة
لا يوثق متحف بيت الخليفة عبر مقتنياته لتاريخ الدولة المهدية فقط أو ما غنتمه في معاركها من أسلحة وعملات، حيث تضم إحدى غرفه -وفقا لجمال زين العابدين- مخازن وصناديق داخلها فخار وحجارة تؤرخ لعصور ما قبل التاريخ وتاريخ مدينة أم درمان القديم الوسيط وتاريخها الحديث، إلى جانب أسلحة نارية استخدمت أثناء دخول هربرت كتشنر إلى أم درمان، وأنواط ونياشين خاصة بالجنرال تشارلز غردون، وأول سيارة في السودان من تصميم شركة أرول جونسون صنعت خصيصا للحاكم العام بالسودان عام 1905 السير ريجنالد وينجيت.
ويسرد المسؤول السوداني في هيئة الآثار والمتاحف من داخل بيت الخليفة للجزيرة نت تفاصيل الضرر الذي لحق بالمتحف حيث تعرض أحد جدرانه للضرر نتيجة القصف بقذيفة، في حين يهدد الانهيار أحد أجزاء المبنى، وحُطّمت دواليب خصصت لعرض أهم القطع الأثرية، مع كسر مخازن احتوت عددا من الآثار، نهب بعضها وبعثرت الأخرى على الأرض، واخترق الرصاص مدافع حربية أثرية تقبع في الفناء الجنوبي من المتحف، في حين تعرضت أسلحة صغيرة مصنوعة من الخشب للتكسير والنهب.
مقتنيات متحف بيت الخليفة
ومن الجانب الغربي لمتحف بيت الخليفة وثقت الجزيرة نت لآلة سك العملة التي أُصدرت بها عملات معدنية استخدمت خلال فترة الدولة المهدية ونهبت العملات بالكامل، وفقا لمسؤول الهيئة.
كما يضم المتحف أول آلة طباعة (مطبعة الحجر) التي جلبت خلال الفترة التركية (1821-1885) وتمت بها طباعة المراسلات وأوراد المهدي وأهم خطابات الدولة المهدية التي أرسلها الإمام المهدي إلى مصر ونيجيريا وإسطنبول، والإنذرات التي أرسلها الخليفة التعايشي إلى ملكة بريطانيا والسلطان العثماني.
ويقر جمال زين العابدين بصعوبة إحصاء الآثار التي نهبت من أحد مخازن المتحف وذلك لكثرة عددها، وقال إن لجانا متخصصة وضعت في وقت سابق قائمة حصرت بها الآثار الموجودة في المخازن، لذا سيستغرق إحصاء ما نهب وقتا، وذلك للمقارنة بين ما وجد مبعثرا من المخازن وقائمة الآثار المكتوبة بهدف تقدير عدد المنهوبات من المخازن.
تأثير النهب على متاحف ومواقع أثرية أخرى
لم يكن متحف بيت الخليفة وحده الذي طاله النهب وآثار معارك حرب السودان، وتقول مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف في السودان غالية جار النبي إنه منذ اندلاع الحرب تعرضت الكثير من المتاحف والمواقع الأثرية لأضرار جسيمة، خاصة في ولايات النزاع مثل الخرطوم ودارفور وكردفان.
جهود استعادة التراث المنهوب
في ظل هذه الأوضاع المأساوية، تتكاتف الجهود المحلية والدولية لاستعادة التراث المنهوب. وتعمل اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات السودان بالتعاون مع اليونسكو والإنتربول والأمم المتحدة، على تتبع واستعادة القطع الأثرية المسروقة. وتعتبر هذه المهمة صعبة ومعقدة، لكنها ضرورية للحفاظ على التراث الثقافي والحضاري للسودان.
أهمية الحفاظ على التراث الثقافي
يعتبر الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري لأي دولة من الأمور الحيوية التي تعكس هويتها وتاريخها. إن فقدان هذه القطع الأثرية لا يمثل خسارة مادية فقط، بل هو فقدان لجزء من ذاكرة الأمة وتاريخها. لذا، فإن الجهود المبذولة لاستعادة هذه القطع والحفاظ عليها تعد من الأولويات القصوى.
دور المجتمع الدولي في حماية التراث
يلعب المجتمع الدولي دوراً مهماً في حماية التراث الثقافي، خاصة في الدول التي تعاني من النزاعات والحروب. ومن خلال التعاون مع المنظمات الدولية مثل اليونسكو والإنتربول، يمكن تتبع واستعادة القطع الأثرية المسروقة ومنع تهريبها وبيعها في الأسواق السوداء. كما يمكن تقديم الدعم الفني والتقني للمساعدة في ترميم وإعادة بناء المتاحف والمواقع الأثرية المتضررة.
في الختام، يمكن القول إن تداعيات النهب على متحف بيت الخليفة في أم درمان تعكس حجم الكارثة التي لحقت بالتراث الثقافي للسودان. إن الحفاظ على هذا التراث واستعادته يتطلب جهوداً كبيرة وتعاوناً دولياً مكثفاً. ويجب أن تكون هذه الجهود مستمرة ودؤوبة لضمان حماية التراث الثقافي والحضاري للأجيال القادمة.
إرسال تعليق